قد حكى بين الملائكة الخصام ** جيه المكرّم إذا ألمّ به لماما
فعجل صاحب السر الصراما ** وقد ثنى على الخضر الملامة
اختلاف العلوم هناك بعضا أو تماما ** تسلّى عن الوفاق فربنا
كذا الخضر المكرّم والو ** تكدّر صفو جمعهما مرارا
ففارقه الكليم كليم قلبه ** وما سبب الخلاف سوى
الخصام بين الملائكة في أي شيئ؟ في قصة آدم وفي حديث اختصام الملأ الأعلى كذلك الاختصام بشأن أهل النار وغير ذلك...
قوله: (الوجيه المكلّم) هو موسى عليه السلام قوله: (تكدّر صفو جمعهما مرارا) تكدّر صفو الجمع بأي شيئ؟ باعتراض موسى عليه السلام موسى اعترض فبين له الخضر أن ليس له هذا (ليس من أدب المتعلم مع المعلم أن يعترض عليه بشيئ لا علم له به) {هل أتّبعك على أن تعلمني مما علّمت رشدا} فلما لم يفِ موسى عليه السلام بالشرط عجل صاحب السّر (الخضر) الصرامة (الفراق) ففارقه الكليم (موسى) وقد ثنى (أعاد) لاعتراض.
ما سبب الخلاف؟ اختلاف العلوم هذا الطالب مثلا يستنكر على المعلم يقول: لا ليس كذا (وهو نظر لها من جهة) سبب الاختلاف هو اختلاف العلم هذا علمه واسع وهذا علمه ضيق فصاحب العلم الضيق اعترض على صاحب العلم الواسع فصار بينهما ما سبّب الانقطاع من الاستفادة ولذلك قال:
العلوم هناك بعضا أو تماما ** مخالفا فيها الأناما
شكورا للذي يحيى الأناما ** وما سبب الخلاف سوى اختلاف
فكان من اللّوازم أن يكون الإله ** فلا تجعل لها قدرا وخذها
يعني (هذه في مسائل القدر) إلى آخر أبياته المقصود من ذلك أنّ صبر المتعلم على المعلم وعدم كثرة الاعتراض هذا يجعله يستمر ويستفيد لأنّ طالب العلم وهو يسمع إذا عوّد ذهنه أن يعترض، أن يستشكل لن يتابع الكلام يفهم أوله وآخره وتسلسل المعلم فأنت تسمتمع مثلا لأحد المشايخ وهو يتكلم فكلما أورد كلمة أتيت باعتراض إذا أورد لفظ حديث قلت في ذهنك: لا هذا ليس لفظ الحديث، الحديث له ألفاظ وروايات أنت حفظت واحدة فلعلّ المعلم عنده ثلاث أربع روايات فانشغلت بالاعتراض إذا انشغلت بالاعتراض حرمت ولكن إذا انشغلت بالفائدة فما كان من الفوائد فيها الصواب استفدت وما كان فيه غير الصواب خطأ (ذهب وحده) أو شيء صححته بينك وبين نفسك أو راجعته فيه هكذا يكون العلم، أما الاعتراضات النفسية هذه التي تطلب الكمال أو نفسية الناقد أي كلّما سمع شيئا من معلمه نقد ولو في نفسه، فتجده يحضر في نفسه أسئلة واعتراضات والمعلم يتكلم هذا لا يستفيد وهذا سبب من أسباب الانقطاع في العلم.
من أسباب الانقطاع: وهذا أيضا ملاحظ أن يكون المرء يطلب شيئا كبيرا فعنده همة في أول الطلب هذه الهمة تكسّر الجبال ماذا تريد؟ أنا أريد أحفظ الكتب الستة أو يقول: الواسطية هذه مختصرة أنا أريد أحفظ التدمرية أو يقول ما أريد أحفظ بلوغ المرام بلوغ المرام هذا خفيف أريد أحفظ منتقى الأخبار فيه ستة آلاف حديث أونحو ذلك ما أريد أحفظ زاد المستقنع هذا مختصر أريد أحفظ مثلا الإجماع والخلاف الذي في المغني مرض هذه الأشياء التي ذكرتها مرّ عليها بعض الشباب ممن هم على هذه الشاكلة صحيح أول الأمر عنده هذه الهمة العظيمة ويشكر عليها لكن هذه الهمة لا تستمر وما عرف عن أحد إلا نوادر أن تستمر معهم هذه الهمة فإذن من أسباب الانقطاع عن الطلب أن تحمل نفسك في فترة الهمة والقوة ما لا تحتمله في تلك الفترة ولكل عمل شرة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح قال: ((إنّ لكل عمل شرة وإنّ لكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى معصية فقد خاب وخسر)) لكل عمل شرة حتى الإقبال على العلم له شرة (عنفوان) كأنّه سيقرأ مائة مجلد وسيحفظ ويعمل...ولكن لهذه الشرة فترة لابدّ: ((إنّ لك عمل شرة)) الشرة العنفوان والقوّة ولكل شرة فترة حتى في العبادات يجد من نفسه نشاط وإقبال تجده مقبلا على العبادة وكثرة الطاعات وإقبال على التلاوة ويجد أحيانا من نفسه كسل إذن الفترة هذه لابد منها لكن المهم لا تكن فترة إلى نكوص فإذا كان كل واحد له فترة فأسأل الله أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين ((لكل عمل شرة)) ما الذي ينبغي أنه إذا أقبلت ووجدت من نفسك الشرة خذ بما يطاق لا تأخذ بشيء لا تحتمله في الفترة مثلا إذا وجدت إقبالا احفظ القرآن احفظ مثلا من متون الأحاديث الأربعين النووية في شرة في فترة قوة أحفظ مثلا بلوغ المرام عمدة الأحكام بحسب ما يتيسر لك، وجدت عندك قوة احفظ كتاب التوحيد احفظ مثلا الواسطية ونحو ذلك.
هذه إذا حصلتها في فترات الشرة في فترات القوة فأنت على خير عظيم والواقع أن الذين وجدوا من أنفسهم الشرة هذه والقوة والعنفوان ما استطاعوا أن يكملوا هذه الكتب إلا نوادر حتى هذه الكتب التي عند بعض الناس إنها مختصرة ما استطاعوا أن يكملوها ولهذا عليكم من العمل ما تطيقون.
من أسباب الانقطاع: أنّك تطلب شيئا بعيدا تطلب أشياء العلماء إلى الآن ما حصلوها إلا نوادر في الأمة حصلت ذلك فإذا وجدت هذا من نفسك لتكن قوتك فيما تطيق وما ينفعك وإذا تحركت رياحك فاغتنمها كما قال الشاعر:
إنّ لك لّ عاصفة سكون ** إذا هبت رياحك فاغتنمها
من أسباب الانقطاع: عن العلم أنّ المرء لا يطالع ولا يبحث من بعض طلبة العلم يأخذ بالوصية المعروفة بالتدرج في العلم وأن يمشي شيئا فشيئا ولكن لا يبحث ولا يطالع.
مثلا تقول لطالب العلم أولا تمشي على الواسطية وشروح كتاب التوحيد والفقه في الزاد وشروحه وغيرها من العلوم لكن لا يكون عنده مطالعات فيجد أنّ هذه المتون فيها شيء من الثقل ما فيها إفراح للنفس والنفس تحتاج إلى تنويع وتقليب فإذا لم يكن عنده مطالعات مثلا في التراجم مطالعات في التاريخ مطالعات في الأخبار مطالعات في اللغة لم يكن يبحث كان إذا مرّت عليه مسألة هذه المسألة تجمع الأقوال فيها هذه آية ما كلام المفسرين فيها إذا ما كان عنده مطالعة متنوعة ولا بحث فتجد أنه يخمد بعد فترة فإذن يحتاج طالب العلم مع التدرج إلى أن يكون له إلمام كيف يبحث؟ ويكتب ويطلع معلمه أو يطلع المشايخ على ما كتب حتى ينمون عنده هذه الموهبة ولقد قال النووي في مقدمات المجموع أو في غيرها انه من أسباب ثبات العلم وتحقيقه أن يكتب المرء ما بحثه وما حققه يبحث وينظر ويكتب لا يكتب للتصنيف مثل ما هو موجود الآن صغار مثلا ما حققوا العلم تجد أنهم ألفوا كتبا ونشروها بعض الرسائل الصغيرة التي رأيتها رسالة من أولها إلى آخرها فيها حوالي خمسة وعشرين صفحة فيها ثمانية عشر خطأ في اللغة وهي خمس وعشرين صفحة هذا مثل ما قال ابن حزم في رسالته التلخيص في وجوه التخليص: ((كيف يكون مأمونا على العلم من لا يحسن اللغة)) كيف يؤمن على العلم؟ كيف نأمنه على فهم الكتاب والسنة؟ وعلى ما نقله لنا من كلام أهل العلم وقد فهمه جيدا؟ إذا كان ما أحسن كتابة عشرين صفحة بدون أخطاء فكيف يكون مأمونا على كلام العلماء الذين ينقل عنهم إذن فانتبه إلى هذه إنه القصد من الكتابة التي أقول لك هو البحث ليس هو النشر لا بل تبحث مسألة تجعلها في نفسك فكم من مسألة كتبنا فيها وهي مطمورة إذا رأيتها عجب لكن في فترة ما كتبناها في فترة أوائل الطلب والشخص فرح بها جدا فرح أنه كتب وحقق وقد حصل لي في فترة من الفترات أن جمعت الأصول اللغوية لعلوم الحديث وكان أحد الذين كتبوا في المصطلح يتمنى أن تجمع الأصول اللغوية لعلوم الحديث مثلا حديث الصحيح ما معنى الصحيح في اللغة ولماذا اختار أهل الحديث هذا الاسم؟ الحسن لماذا؟ المضطرب المدبج المنقطع المقطوع المرسل المدلس الضعيف لماذا اختارو؟ من فترات الشباب أن جمعت هذا من كتب اللغة في بحث استمرّ مدّة طويلة هذه الأقوال فأخذتها وقرأتها على الشيخ الأستاذ أديب العربية محمود شاكر المعروف كان في الرياض مكثت فترة قرأت فيها عليه بعض كتب اللغة وأنا فرحان بهذا الذي كتبت وهو دقيق ينظر فيه وفيه عجب فقلت: يا شيخ أنا عندي كتابات في اللغة لعلك نعطيك فترة فلما قرأ ما قرأ قلت: يا شيخ إيش رأيك قال: ماش أنا كنت أبغاه يمدح، قال: هذا عبث شباب هي كلمة قاسية لكنها نافعة لكنها كانت خطوة في البناء اللغوي مثلا في طلب العلم لكن نشرها لم يكن مناسبا مثل ما قال هذا عبث شباب صحيح شاب فرح وجمع إلى أن حصل على الشيء وكتبه.
فالمقصود البحث ينمي عندك القوة العلمية ويجعلك مواصلا في الاطلاع على الكتب وفي النظر لكن لا تنشر ولا تستعجل خلها عندك لأنها جزء من بناءك العلمي فإذن كيف تمتع الانقطاع لمن كان متدرجا في طلب العلم برعاية المتون يكون بهذا الأمر وهو أنك تبحث وتكتب وتري المعلمين ما كتبت حتى يصححوا لك المسار تكون كتاباتك نقية ومتزنة ولكن لا تستعجل بشيء فإنما هي لغرضين لاستمرارك في العلم وعدم الانقطاع في العلم ولتكوين الملكة العلمية المناسبة.
هذه كلمات اقتضاها عدم مجيء أكثر الإخوة في هذا الدرس ولعل أن يكون فيها بعض النفع وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.